عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٩

قال الزجاجيّ : وذلك كقولك : والله ما رأيت زيدا ، أي ما ضربت رئته. ويقال لذلك القول : ملاحن القول ، ولقائله ملاحن ، وإليه أشار الطرمّاح بقوله (١) : [من الطويل]

وأدّت إلي القول عنهنّ زولة

تلاحن أو ترنو لقول الملاحن

يقال : لاحنت فلانا أي واطأته على كلام يفهمه عنّي دون غير ، وهذا كالاصطلاح على بعض التعبير عن الأشياء بلفظ غير مستعمل في موضعه ، وإلى هذا أشارت الكلبية بقولها (٢) : [من الطويل]

وقوم لهم لحن سوى لحن قومنا

وشكل ، وبيت الله ، لسنا نشاكله

قال الواحديّ : أي لغة ومذهب في الكلام يذهبون إليه سوى كلام الناس المعتاد. قال أبو عبيد : اللّحن ـ بفتح الحاء ـ الفطنة ، وبالكسر : الحاذق بالكلام الفطن له ، وقد وقع الفرق بين المعنيين بتغيير الحركة في الماضي وبتغيير الصّيغة في الصفة ، فيقال : لحن في كلامه ، أي أخطأ الإعراب يلحن ـ بالفتح ـ فيهما فهو لاحن. ولحن ـ بالكسر ـ يلحن ـ بالفتح ـ إذا فطن وفهم أو درى فهو لحن. وأما المصدر فاتّفقا فيه وهو اللّحن بزنة اللحم. وقال الفراء : يقال للرجل يعرّض ولا يصرّح جعل ذلك لحنا لحاجته ، ويقال من هذا : لحن يلحن ـ بالفتح ـ فأمّا لحن ـ بالكسر ـ يلحن فالمراد به : فطن وفهم ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولعل بعضهم ألحن بحجّته من بعض» (٣) أي أفطن. قلت : وعلى هذا فقد وقع الفرق بين لحن ولحن بالفتح والكسر ، من وجه آخر ؛ فبالفتح أي عرّض وجعل ذلك لحنا لحاجته ، وبالكسر إذا فهم ذلك وفطنه عن غيره ، وصار لحن ـ بالفتح ـ مشتركا بين الخطأ في الإعراب وبين التعريض والتورية. وفرّق بعضهم بين لحن ولحن أيضا بالمصدر ؛ فقال : أخطأ اللحن بسكون العين ومصدر فطن بفتحها مع الفرق بما تقدم ، وجعل من ذلك ما حكي عن معاوية وعبد الله بن زياد فقيل : إنه ظريف على أنه يلحن ، قال : أو ليس ذلك أظرف له؟ (٤) عنى معاوية بذلك اللّحن بفتح الحاء وهو الفطنة. وقال غيره : لم يرد إلا اللحن المعهود وهو

__________________

(١) مدكور في اللسان ـ مادة لحن.

(٢) في الأصل : الكلابية والتصويب من اللسان ـ مادة لحن ، والبيت فيه.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٤١ ، وفيه «عسى أن ...».

(٤) النهاية : ٤ / ٢٤٢ ، ومعاوية سأل عن ابن زياد ، فقيل له ..

٢١

الخطأ في الكلام والعدول عن سنن الإعراب ، أي التشدّق والتّفاصح في الكلام ، ألم تسمع قول الآخر (١) : [من الخفيف]

وخير الحديث ما كان لحنا

أي هو مستملح من المتكلم ، فإنّ التقعّر في الكلام مستهجن ، وهذا ليس بشيء لأنّ العدول عن سنن الأعراب خطأ فاحش. وأما البيت فقد تقدم أن أكثر الأدباء على أنه الفطنة أو التعريض.

واللحن ـ أيضا ـ لغة ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : «تعلّموا اللحن كما تعلّمون القرآن» (٢). وعن أبي ميسرة : «العرم المسنّاة بلحن اليمن» (٣) أي بلغتهم. قال أبو عبيدة في تفسير كلام عمر أي تعلموا الخطأ في الكلام ، ومنه قول أبي العالية : «كنت أطوف مع ابن عباس فيعلّمني اللحن» (٤) قلت : يعلّمه ليتجنّبه فإنه يتعلم الصواب ليرتكب والخطأ ليتجنب. وقيل : عنى بذلك أنه كان يميل بلغته أي لغة الفرس. وعن عمر بن عبد العزيز : «عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم» (٥) أي فاطنهم. وقال أبو الهيثم : اللحن والعنوان واحد وهما العلامة ، يشير بها الإنسان إلى آخر ليفطن.

فصل اللام والدال

ل د د :

قوله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)(٦) أي شديد الخصومة. واللّدد : شدة الخصومة. يقال : رجل من قوم لدّ ، ومنه قوله تعالى : (قَوْماً لُدًّا)(٧). وامرأة لدّاء وجمعها لدّ كالمذكر

__________________

(١) وتأويله : وخير الحديث من مثل هذه الجارية ما كان لا يعرفه كل أحد ، إنما يعرف أمرها في أنحاء قولها.

(٢) النهاية : ٤ / ٢٤١ ، يريد لغة العرب.

(٣) المصدر السابق ، في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ).

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) ٢٠٤ / البقرة : ٢.

(٧) ٩٧ / مريم : ١٩.

٢٢

كحمر لأحمر وحمراء ، وهو منقاس في ذلك كما بيناه في موضعه. وإنما سمي الشديد الخصومة ألدّ ، اشتقاقا من لديدي الإنسان وهما جانبا الفم ، لأنّ المخاصم لك كلّما أخذت في جانب أخذ في آخر من الجدال. وقيل : من لديدي العنق ، وهما جانباه (١) ، إذ إنه شديد اللديد وهو صفحة العنق لأنه لا يمكن صرفه عما يريده ، يقال : لدّ (٢) زيد يلدّ لددا فهو ألدّ ، وفي حديث عليّ كرّم الله وجهه : «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقلت : يا رسول الله ما ذا لقيت بعدك من الأود واللّدد» (٣) قال المبرد : الأود : العوج ، واللّدد : الخصومات.

ولددته اللدة ، أي غلبته في اللّدد ، وفي الحديث : «خير ما تداويتم به اللّدود» (٤) هو ما سقي الإنسان في أحد شقّي الفم ، وفي حديث آخر : «أنه لدّ في مرضه» (٥) وقيل : هو ما سقي الإنسان من وراء في أحد شقّي وجهه ، وقد التددت ذلك. والتلدّد ـ أيضا ـ التلفّت يمنة ويسرة تحيّرا من لديدي العنق لأنه كلّما التفت تحرّك لديداه.

ل د ن :

قوله تعالى : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)(٦) لدن : ظرف لأول غاية زمان أو مكان ، فهو متردّد بين ظرفين ، ويضاف للزمان ، ومنه قول الشاعر (٧) : [من الرجز]

سقى الرّعيدة (٨) في ظهيري

من لدن الظّهر إلى العصير

بخلاف عند ، والفرق بينهما أيضا أن عند لا يستدعي حضورا ولدن يستدعيه ؛ تقول :

__________________

(١) اللديدان : صفحتا العنق دون الأذنين.

(٢) وفي الأصل : لدد ، وصوّبناه من اللسان.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٤٤.

(٤) النهاية : ٤ / ٢٤٥ ، اللدود : ـ بالفتح ـ من الأدوية.

(٥) المصدر السابق.

(٦) ٨ / آل عمران : ٣.

(٧) البيت من الأبيات المجهولة النسب ، وكل ما قيل إنه لراجز من طيء. ويستشهدون به على كسر نون «لدن» وقبلها حرف جر (شرح ابن عقيل : ٢ / ٥٦).

(٨) في الأصل : الرعدة. وفي ابن عقيل : تنتهض الرعدة.

٢٣

عندي مال وإن كان غائبا من مجلسك ، ولا تقول لديّ إلا وهو بمجلسك. وقد تضاف إلى جملة اسمية ، كقول الشاعر : [من الطويل]

تذكّر نعيماه لدن انت يافع

إلى أنت ذا فدّين أبيض كالنّسر

وفيها لغات كثيرة (١) حرّرناها في «إيضاح السبيل» ولما ذكرناه من الفرق المعنويّ بينهما ، قال تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(٢) لما كان العلم أشرف الأشياء أتى معه بالظرف الأخصّ تنبيها على شرفه ، وإلا فالظرفية الحقيقة مستحيلة في جانب الباري تعالى.

وتلدّنت في الأمر : مكثت فيه ، وفي الحديث : «أن رجلا ركب ناضحا له فبعثه فتلدّن عليه» (٣) أي مكث وتباطأ.

ل د ى :

قوله تعالى : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ)(٤) لدى : قيل بمعنى عند ، وقيل : لغة في لدن ، وجرت ألفها مجرى ألف إلى وعلى في قلبها ياء مع المضمر نحو : لديّ ولديك ولديه. وتسلم مع المظهر ، وقد تسلم ألف الثلاثة مع المضمر حملا له على المظهر ، وأنشدوا : [من الوافر]

إلاكم يا جياعة لا إلانا

على قصر اعتمادكم علانا

فلو برئت عقولكم علمتم

بأنّ شفاء ذاتكم لدانا

يريد : إليكم ، إلينا ، لدينا ، ولها أحكام أخر.

__________________

(١) منها : لدن ، ولدنّ ، ولدن ، ولد محذوفة منها ، ولدى محولة.

(٢) ٦٥ / الكهف : ١٨.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٤٦.

(٤) ٢٥ / يوسف : ١٢.

٢٤

فصل اللام والزاي

ل ز ب :

قوله تعالى : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١) أي ثابت شديد اليبوسة ، كقوله : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ)(٢). ولذلك فسّره بعضهم بالثابت الشديد الثّبوت. وقال مجاهد : هو ما لصق باليد ، وهذا يؤذن بأنّه طريّ فيه نداوة.

ويقال : ضربة لازب ولازم. وهذا أمر لازب ولازم ولاتب ، أي لا بدّ منه. واللزبة : السنة الجدبة. ولله درّ بني فلان ما أشدّ في الهيجاء لقاءها وأكثر في اللزبات عطاءها!

ل ز م :

قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٣) اللزام : التلازم ، وهو عدم الانفكاك ، والتّقصيّ من الشيء. يقال : لزمه يلزمه لزوما ، ولازمه ملازمة ولزاما. وقيل : هو طول مكث الشيء مع غيره. والمعنى فسوف يكون التكذيب لازما لمن كذب حتى صار يعلمه. وقيل : فسوف يكون آخر التكذيب لازما غير منفكّ عنكم. [قال](٤) أبو عبيدة : لزاما ، أي فيصلا. وقال غيره : فسوف يلزمكم التكذيب فلا تعطون التوبة.

وألزمتك كذا : جعلتك لازما له. قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى)(٥) أي جعلهم ملازمين لها ، وهي كلّ كلام فيه تقوى من أمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وتلاوة قرآن ، ودراسة علم وتدريسه ، وإرشاد ضالّ ، ونحو ذلك. ومن قال : أنها كلمة التوحيد فلقد صدق لأنها ملاك ذلك كلّه. وقوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) لا يريد الكلمة الفردة ، بل الطائفة الدالة على ذلك كقوله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ)(٦)(كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ)(٧) أصدق كلمة.

__________________

(١) ١١ / الصافات : ٣٧.

(٢) ١٤ / الرحمن : ٥٥.

(٣) ٧٧ / الفرقان : ٢٥.

(٤) إضافة المحقق.

(٥) ٢٦ / الفتح : ٤٨.

(٦) ٦٤ / آل عمران : ٣.

(٧) ١٠٠ / المؤمنون : ٢٣.

٢٥

وقد شرحنا ذلك غير مرة. ثم الإلزام يكون نوعين ؛ نوع بالتّسخير من الباري تعالى أو القهر عليه من الإنسان. وإلزام بالحكم والأمر كقوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) ، الظاهر أنه من النوع الأول وهو التسخير من الباري تعالى ، ويرشحه قوله تعالى : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها)(١) وقيل : هو من الثاني ، أي حكم لهم بذلك وأمرهم به.

واللزوم من المصادر التي جاءت على فعول للمتعدي وهي محفوظة ، بل فعول لازم كالجلوس والقعود.

قوله : (لَكانَ لِزاماً)(٢) أي لكان القتل يوم بدر لازما لهم ، أي عقوبته وأثره ملازمة لهم في الدنيا. وقال آخرون : لكان القتل الذي نالهم يوم بدر لازما لهم أبدا ، ولكان العذاب لازما لهم فيه ، وهذا تسامح من قائله ، إذ نفس القتل لا يبقى متطاولا إنما هو العقوبة الناشئة عنه.

ل س ن (٣) :

... القدرة ودلالة الآية على اختلاف لغات الخلائق حتى تجد الجيل الواحد يتكلم بلغات شتّى ؛ هذه العرب يتكلم بعضها بما لا يفهمه الآخر ، ولذلك سألت الصحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير كثير من ألفاظ القرآن. ويحكى عن ابن عباس وأنظاره كثير من نحو : «ما كنت أدري ، ما معنى كذا. حتى اختصم ، حتى سمعت» وهذه الحبشة لها عدة لغات ، وكذا الترك والفرس. فسبحان من لا تختلف عليه اللغات ولا تغلطه المسائل.

وفي بعض التواريخ أنّ الإسكندر رأى بحرا بأقصى الشرق ، فأراد معرفة آخره ، فأرسل قوما في سفن متعددة ، وزوّدهم بكثير من الزاد ما يكفيهم أربع عشرة سنة. وقال : إذا مضت سبع فارجعوا لئلا تهلكوا. فساروا فلم يدركوا آخره ، غير أنّهم رأوا سفنا في البحر

__________________

(١) ٢٦ / الفتح : ٤٨.

(٢) ١٢٩ / طه : ٢٠.

(٣) في النسخ الثلاث نقص من مطلع مادة (ل س ن). وجاء في الهامش بخط آخر أسطر نذكر منها ما لم يرد في المتن : «اللسن واللسان : الجارحة وقوتها .. ويقال لكل قوة لسان ولسن ... قوله : «واختلاف ألسنتكم» (٢٢ / الروم : ٣٠)».

٢٦

وفيها أقوام فقاتلوهم. فظفر بهم أصحاب الإسكندر ، فأتوه بهم فلم يعرف أحد من حاشية الإسكندر ـ على كثرتهم واختلاف أجناسهم ـ لغة أولئك ، ولا هم يعرفون لغة غيرهم. فأشار بعض الحكماء أن يزوج من نسائهم لرجال هؤلاء ، ومن رجالهم بنسائهم. ففعل. فنشأت الأولاد بينهم تعرف بلغة آبائها وأمهاتها ، فحدّثوا عنهم بأن ملكهم أرسلهم فيما أرسل فيه الإسكندر.

وقال الراغب (١) : إشارة إلى اختلاف اللغات واختلاف النغمات فإنّ لكل إنسان نغمة مخصوصة ، يتميّزها السمع ، كما أنّ له صورة مخصوصة يتميّزها البصر.

قوله تعالى : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي)(٢) ، المراد قوة لساني ، يعني جودة الكلام وقوة الخطاب. قال الراغب : فإنّ العقدة لم تكن في الجارحة ، وإنما كانت في قوته التي هي النطق به. قلت : وهو الظاهر إلا أن المفسرين نقلوا أنه لما وضع فرعون بين يدي موسى عليه‌السلام تمرة وجمرة ليختبره في قصة جرت ، أخذ الجمرة فوضعها في فمه ، فاحترق لسانه ، فكان فيه أثر أثّر في كلامه. ولذلك قال موسى عليه‌السلام في حقّ أخيه هارون : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)(٣). وقال فرعون : (وَلا يَكادُ يُبِينُ)(٤). فسأل عليه‌السلام إزالة ذلك الأثر المؤثر.

واللسان يذكّر ويؤنّث ؛ فإن ذكر جمع على الألسنة ، نحو حمار وأحمرة. وإن أنث جمع على ألسن ، نحو عقاب وأعقب.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(٥) أي بلغتهم ليفهموا عنه ما يخاطبهم به فيراح عليهم. فإن قيل : فنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى العجم والعرب مع اختلاف لغتهم فقد أرسل بلسان العرب لأعمّ من العرب ، فالجواب أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبعث إلى قومه

__________________

(١) المفردات : ٤٥٠.

(٢) ٢٧ / طه : ٢٠.

(٣) ٣٤ / القصص : ٢٨.

(٤) ٥٢ / الزخرف : ٤٣.

(٥) ٤ / إبراهيم : ١٤.

٢٧

خاصة ، كما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعث إلى الناس كافّة ، فلم يبق إلا أن يرسل بأحد الألسنة. ولما كان أشرفها اللسان العربيّ أرسل به.

وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاطب بعضهم بلغته ، فلو أدّت الحاجة إلى أن يكلم كلّ أحد بلغته لكلّمهم. وأيضا فإن ترجمة اللغة العربية بلغة أخرى مستفيض ، فاستغني عن غير اللسان العربي. وأمّا القرآن فلم تجز قراءته إلا باللسان العربي. وما يروى عن أبي حنيفة من جواز ترجمته بالفارسية فمرجوع عنه.

واللّسن : حدّة الكلام وقوة اللسان. ورجل لسن : بيّن اللّسن. ولسنت الرجل : أخذته بلساني. ومنه حديث عمر وامرأة : «لسنتك» (١).

وقال طرفة (٢) : [من الرمل]

وإذا تلسنني ألسنها

إنني لست بموهون ، فقر

وفي الدعاء : «ونعوذ بك من شرّ اللسّن». قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ)(٣) أي بلغتك.

فصل اللام والطاء

ل ط ف :

قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ)(٤). اللطيف في صفات الله تعالى بمعنى الرفيق بعباده حيث لم يكلّفهم إلّا ما يطيقون ، يقال : لطف له يلطف لطفا : إذا رفق به. وكان من حقّه أن يتعدّى بالباء كنظيره ، وإنّما عدي باللام لتضمّنه معنى الإيصال كأنّه قيل : أوصل له اللطف. ولطف الله بك ، أي أوصل إليك لطفه. وأمّا لطف ـ بالضم ـ فمعناه دقّ

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٢٤٩ ، أي أخذتك بلسانها ، يصفها بالسلاطة وكثرة الكلام (اللسان).

(٢) الديوان : ٧٤ ، من قصيدة يصف فيها أحواله وتنقله في البلاد ولهوه. تلسنني : تأخذني بلسانها وتذكرني بالسوء. فقر : مكسورة فقار ظهره.

(٣) ٩٧ / مريم : ١٩.

(٤) ١٠٠ / يوسف : ١٢.

٢٨

وصغر. وقيل : اللطيف في غير صفة الله تعالى إذا وصف به الجسم فضدّ الجثل (١). ويعبّر باللطف واللطافة عن الحركة الخفيّة وعن تعاطي الأمور الدقيقة. وقد يعبّر باللطيف عمّا لا تدركه الحاسّة. ويصحّ أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه ، وأن يكون لعلمه بدقائق الأمور ، وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم ، وفي غير ذلك. فقوله : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي حسن الاستخراج تنبيها على ما أوصل إليه يوسف حيث ألقاه إخوته في الجبّ. وقد يعبّر عن التّحف المتوصّل بها إلى استجلاب المودّة باللّطف ، فيقال : الطف لأخيك كذا ، والطف بكذا أي اهد له هدية ، ومنه في المعنى قوله عليه الصلاة والسّلام : «تهادوا تحابّوا» (٢).

فصل اللام والظاء

ل ظ ي :

قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها لَظى)(٣) لظى : اسم من أسماء جهنّم أو من أسماء طباقها ، وعلى التقديرين ففيها العلمية والتأنيث فمنعت من الصرف.

وأصل اللّظى اللهب الخالص ، وقد لظيت النار تلظّى ، وتلظّت تتلظّى أي التهبت. قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى)(٤) أي تتلظّى ، فحذفت أحدى التاءين ، نحو (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ)(٥). وللنّحاة في المحذوفة قولان.

__________________

(١) جثل الرجل : غضب وتهيأ للقتال.

(٢) المفردات : ٤٥٠. والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط وغيره «كشف الخفاء : ١ / ٣١٩».

(٣) ١٥ / المعارج : ٧٠.

(٤) ١٤ / الليل : ٩٢.

(٥) ٤ / القدر : ٩٧.

٢٩

فصل اللام والعين

ل ع ب :

قوله تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)(١). اللعب فعل ما لا فائدة فيه. وقيل : ما فعل من غير قصد صحيح ، وهو بمعنى الهزل ، فهو ضدّ الجدّ ، وقيل : اللعب : كلّ عمل لا يجري على فاعله نفعا ، ويقال من هذا : لعب ـ بالكسر ـ يلعب ـ بالفتح ـ لعبا. وأمّا لعب ـ بالفتح ـ يلعب فمعناه سال لعابه.

واللّعبة : المرّة من اللعب ، وبالكسر : الحالة ، وبالضمّ اسم ما يلعب به كالغرفة واللّقمة. ورجل تلعابة : كثير اللعب. والملعب ـ بالفتح ـ : موضع اللعب ، وجمعه ملاعب ، قال الشاعر (٢) : [من الطويل]

وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه

ولعاب النّحل : العسل ، تصويرا له بصورة اللّعاب ، وكذا لعاب الشمس لما يتراءى كنسج العنكبوت متّصلا بأشعتها.

ل ع ل :

قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٣) لعلّ : في الأصل حرف ترجّ وإشفاق ك «عسى» ، وذلك في حقّ الباري محال ، فإذا ورد لفظ يوهم ذلك صرف إلى المخاطب ، فقوله للنبيّين الكريمين : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) اذهبا في طمعكما في ذلك ورجائكما له طامعين. ومن ثم قال سيبويه : إنّ لعلّ من الله واجبة إن لم يرد بها حقيقتها بالنسبة إلى الباري تعالى ، وما قدّمناه من التأويل هو قول الحذّاق. قوله : (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ)(٤) ، فهذا طمع صريح منهم.

__________________

(١) ٦٤ / العنكبوت : ٢٩.

(٢) البيت لذي الرمة (الديوان : ٢ / ٨٢١) ، وهو من شواهد ابن هشام (أوضح المسالك : ١ / ٢٢٠).

(٣) ٤٤ / طه : ٢٠.

(٤) ٤٠ / الشعراء : ٢٦.

٣٠

وقد زعم بعضهم أنها ترد تعليلا كقوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ / لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١) ونظائره ، فإن المعنى كي تفلحوا ، وليس كما زعم بل معناه افعلوا ذلك راجين الفلاح وطامعين فيه لا قاطعين به ، فإنّ القبول لله تعالى ، وهذا كقوله : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ)(٢). وزعم آخرون أنها ترد استفهاما ، وجعل منه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض صحابته وقد دعي له : «لعلّنا أعجلناك؟» (٣). وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)(٤) أي وهل. ولذلك علّق به فعل العلم ، وفيه بحوث ليس هذا موضعها.

وقد تجرّ بها بعض العرب بالله اللام الأولى كقول الشاعر : [من الوافر]

لعل الله فضّلكم علينا

بشيء إنّ أمّكم سريم

أو محذوفها كقول الآخر (٥) : [من الرجز]

علّ صروف الدهر أو دولاتها

تديلنا اللّمّة من لمّاتها

فتستريح النفس من زفراتها

وقد تكسر في ذلك لامها الأخيرة. وقد أنشد قوله : «لعل الله» بالوجهين ، وفيها لغات كثيرة : لعلّ ، علّ (٦) ، لعنّ ، رعنّ ، لأنّ ، أنّ ، ومنه قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)(٧) وقال امرؤ القيس (٨) : [من الكامل]

عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا

نبكي الديار كما بكى ابن خذام

__________________

(١) ٧٧ / الحج : ٢٢.

(٢) ٥٧ / الإسراء : ١٧.

(٣) صحيح البخاري ، الوضوء ٣٤.

(٤) ٣ / عبس : ٨٠.

(٥) رجز ذكره الفراء (معاني القرآن : ٣ / ٩) وابن منظور (اللسان ـ مادة لمم).

(٦) يرى اللغويون أن أصل «لعل» هو «علّ» ، واللام في أولها زائدة.

(٧) ١٠٩ / الأنعام : ٦. يقول الفراء : وهو وجه جيد أن تجعل (أنّ) في موضع لعلّ. وهي قراءة أبيّ : لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون (معاني القرآن : ١ / ٣٥٠).

(٨) الديوان : ٩٢. وابن خذام : شاعر جاهلي. المحيل : المتغير.

٣١

أي لعلّنا. ويقال : لعلت ـ بالتاء ـ وهي أعزّ بها. وتعمل عمل إنّ في نصب الاسم ورفع الخبر ، وقد تقدم أنها تجرّ ومعناها جارّة كمعناها ناصبة رافعة ، فمرفوع على اللغتين ، وإذا جرّت فلا معلّق لها كالزائد ، ولا عند سيبويه.

ل ع ن :

قوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ)(١) اللعن : الطرد والإبعاد على سبيل السّخط ، وهو من الله تعالى ؛ في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول فيضه وتوفيقه. وأمّا من الناس فهو الدّعاء بذلك (٢).

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ)(٣) أي أبعدهم من رحمته ، وكان الرجل إذا تمرّد أبعدته العرب خوف أن تلحقهم جريرته فيقولون : هو لعين بني فلان أي ملعونهم.

قوله : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)(٤) قيل : عنى بها شجرة الزقوم ، وجعلت ملعونة ، والمراد آكلوها فاتّسع في الكلام ، وقد سميت بذلك لأنّ كل طعام كريه يقال له ملعون ، وقوله : (فِي الْقُرْآنِ) يعني أنّ النصّ على كراهتها في القرآن ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)(٥) ولا شيء أكره من ذلك الموصوف ببعض هذه الصفات فكيف بكلّها؟ وفي التفسير إنها أبو جهل وذلك على سبيل التمثيل لا الحقيقة.

وفي الحديث : «اتّقوا الملاعن» (٦) نهى عن قضاء الحاجة في المواضع التي يلعن فيها من يفعل ذلك كقارعة الطريق والظلّ ومتحدّث الناس ، فهي جمع ملعن وهو موضع اللعن.

ورجل لعنة : كثير اللعنة ، نحو ضحكة.

__________________

(١) ١٨ / هود : ١١.

(٢) يريد : الدعاء عليه.

(٣) ٥٢ / النساء : ٤ ، وغيرها.

(٤) ٦٠ / الإسراء : ١٧.

(٥) ٤٣ وحتى ٤٥ / الدخان : ٤٥.

(٦) النهاية : ٤ / ٢٥٥.

٣٢

فصل اللام والغين

ل غ ب :

قوله تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ)(١) أي تعب وإعياء ، يقال : لغب (٢) يلغب لغوبا ، وأتانا لاغبا : أي جائعا تعبا. ورجل لغب بيّن اللّغابة ، أي ضعيف بيّن الضّعف. وعن بعض الأعراب : فلان لغوب أتته كتابي فاحتقرها ، أي ضعيف الرأي. ويحكى أنه قيل لهذا القائل : كيف تقول كذا؟ فقال : أليس الكتاب بمعنى الصحيفة؟ يعني أنّث على المعنى. ومثله قول الآخر : [من الطويل]

وقد خاب من كانت سريرته الغدر

لأن الغدر بمعنى الخيانة ، وقيل غير ذلك ، وله مقام. وفي الحديث : «أن أهدى إليه سلاحا فيه سهم لغب» (٣) قيل : هو الذي لم يلتئم ريشه فإذا التأم فهو لؤام. وقيل : لأنّ قدره (٤) ضعيفة ، فهو راجع لمعنى الضّعف.

ل غ و :

قوله تعالى : (وَالْغَوْا فِيهِ)(٥) أي إيتوا فيه باللغو والصّياح. وقيل : معناه عارضوه بكلام لا يفهم. يقال : لغوت ألغو ، واللّغو واللّغا ، ولغيت ـ بالكسر ـ ألغى ـ بالفتح. فقوله : (وَالْغَوْا فِيهِ) يجوز أن يكون من لغيت ولغوت ؛ إما من «لغيت» فظاهر نحو : ارضوا ، من رضي يرضى فإنه من الرّضوان. وإمّا من لغوت فعلى لغة من يقول في مضارعه يلى بالفتح ، وهذه اللغة ترد في قول من قال : إنّ قوله تعالى : (وَالْغَوْا) من لغى ـ بالكسر ـ لا من لغا ـ بالفتح ـ. وفي الحديث : «فقد لغوت» (٦) أي أتيت بلغو (٧).

__________________

(١) ٣٨ / ق : ٥٠.

(٢) وبكسر الغين لغة ضعيفة.

(٣) الضمير عائد على يكسوم أخي الأشرم كذا في النهاية : ٤ / ٢٥٦. وفي اللسان ورد اسمه «مكسوم».

(٤) كذا في الأصل.

(٥) ٢٦ / فصلت : ٤١.

(٦) النهاية : ٤ / ٢٥٧.

(٧) يقال : لغا يلغو ، ولغى يلغى ، ولغي يلغى : إذا تكلّم بالمطرح (وضبطها الهروي : بالمطّرح).

٣٣

واللغة : ما تكلمت به الأمة من الناس على اختلاف ألسنتهم. واللغة هل هي توقيفية أو اصطلاحية قولان. وذلك من لغى يلغى ـ كذا ـ إذا لهج به ، وأصله من لغا العصفور : إذا صاح وصوّت. وكذا يقال في غيره من الطيور.

وأصل لغة لغوة فحذفت اللام وجعلت الهاء عوضا منها.

قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ)(١). اختلف في اللغو في هذه الآية ؛ فقيل : هو ما لا يعتدّ به ، وذلك إذا لم يقصد به عقد اليمين بدلالة قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ)(٢). وفي موضع آخر (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(٣). وعن عائشة في آخرين : «هو قول الرجل في أثناء محاورته وكلامه : لا والله ، وبلى والله ، من غير قصد يمين» ، ولذلك فسّره بعضهم فقال : اللغو ما لا يعتدّ به من الكلام ، ولا يورد عن رويّة وفكر ، فيجري مجرى اللّغا وهو صوت العصافير ونحوها ، قال أبو عبيدة : يقال : لغو ولغا نحو عيب وعاب وأنشد قول الشاعر : [من الرجز]

عن اللّغا ورفث التّكلّم (٤)

وإياه قصد الشاعر بقوله (٥) : [من الطويل]

ولست بمأخوذ بلغو تقوله

إذا لم تعمّد عاقدات العزائم

وقال ابن عرفة : اللغو الشيء المسقط الملقى المطروح ؛ يقال : لغا زيد : تكلّم بكلام ساقط مطروح ، وألغى : أطرح. وأنشد (٦) : [من الوافر]

ويهلك بينها المرئيّ فيها

كما ألغيت في الدّية الحوارا

__________________

(١) ٨٩ / المائدة : ٥ ، وغيرها.

(٢) تتمة الآية.

(٣) ٢٢٥ / البقرة : ٢.

(٤) قاله رؤبة ، ونسبه ابن بري للعجاج (اللسان ـ لغا).

(٥) من شواهد المفردات : ٤٥٢.

(٦) قاله ذو الرمة يهجو هشام بن قيس المرئي أحد بني امرىء القيس بن زيد مناة (الديوان : ٢ / ١٣٧٩) ، وفيه : وسطها المرئيّ لغوا ويروى أن جريرا عمله له.

٣٤

وقيل : هو أن يتيقن شيئا أو يغلب على ظنّه فيحلف عليه فيتبيّن خلافه. وقيل : الحلف على المعصية. وقيل : الحلف في الغضب. وقيل : هو تحريم الرجل على نفسه ما أحلّ الله له كقوله : إن فعلت كذا فمالي حرام. وقيل : دعاء الرجل على نفسه. وقد أتقنت هذه المسألة ولله الحمد ، وذكرت اشتقاقها واختلاف الفقهاء واللغويين فيها واستدلال كلّ فريق وما ردّ به عليه ، وما أجيب به عنه ، ووصلنا الأقوال فيه إلى عشرة في «القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز».

قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)(١) قيل : هو القبيح ، وذلك أنّهم إذا قصدوا أن يتكلموا الشيء فيه قبح كنّوا عنه ، أي إذا رأوا أهل اللغو لم يخوضوا معهم فيه ؛ بل إمّا أن يسكتوا إن أمكن وإلّا كنّوا عن ذلك. وقال الفراء : وإذا مرّوا بالباطل.

قوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)(٢) أي الكلام القبيح وما لا ينبغي. وكذا قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً)(٣) قيل : كلاما قبيحا ، وقيل : الساقط من القول ، وقيل : ما لا يرضون ، وكلّ ذلك كائن عدمه.

قوله : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً)(٤) أي لغوا ، ففاعلة هنا مصدر ، كقوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)(٥) أي بقاء ، قاله الأزهريّ ، وقال غيره : أي قائلة لغوا ، فجعله اسم فاعل على بابه والتاء فيه للمبالغة ، وهو أحسن لأنّ المصادر على فاعلة لا ينقاس مع نزاع فيها. وفي حديث الجمعة : «من مسّ الحصى فقد لغا» (٦) يعني أنه بمنزلة من يقول لغوا. وقيل : مال عن الصواب ، وقيل : خاب ؛ يقال : ألغيته ، أي خيّبته ، قاله النضر. وفي الحديث : «والحمولة المائرة لهم لاغية» (٧) المائرة : التي تحمل الميرة ، ومعنى لاغية أي لا يعتدّ بها

__________________

(١) ٧٢ / الفرقان : ٢٥.

(٢) ٥٥ / القصص : ٢٨.

(٣) ٦٢ / مريم : ١٩ ، وغيرها.

(٤) ٨ / الحاقة : ٦٩.

(٥) ١١ / الغاشية : ٨٨.

(٦) النهاية : ٤ / ٢٥٨.

(٧) المصدر السابق.

٣٥

عليهم في الصّدقة ؛ ففاعلة هنا بمعنى النّسب أي ذات لغو كقوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ)(١) وهو أحسن من قول من قال : إنّ فاعلة هنا بمعنى مفعولة أي ملغاة ومرضية.

فصل اللام والفاء

ل ف ت :

قوله تعالى : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا)(٢) إي لتصرفنا وتحرفنا ، يقال : لفته يلفته لفتا فالتفت ، أي صرفه عن وجهه ومراده ، وأنشد : [من الطويل]

تلفتّ نحو الحيّ حتى وجدتني

وصعب من الإصغاء ليتا واخدعا

وامرأة لفوت : تكثر الإلتفات عن زوجها لولدها من غيره ، وهي أيضا الناقة التي تلتفت لحالبها لتعضّه فينهزها فتدرّ. ومنه الحديث : «وأنهز اللّفوت وأضمّ العنود» (٣).

واللّفيتة : ما غلظ من العصيدة ، ومنه الحديث : «وأنّ أمّه اتّخذت لهم لفيتة من الهبيد» (٤) وقيل : هو نوع من الطّبيخ. وفي الحديث : «كان إذا التفت التفت جميعا» (٥) يعني لا يلوي عنقه يمينا ولا يسارا لأن ذلك فعل الشياطين (٦) ، بل يلتفت ببدنه كلّه ليقبل على الأمر الذي يقصده. وقيل : هو كناية عن سارقة النظر أي كان لا يسارق النظر ، ويؤيده أنه كان يحرّم عليه (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ)(٧) ، أي لا يغمز بعينيه مشيرا لقتل أحد ونحوه. وفي حديث حذيفة : «كان من أقرأ الناس منافق لا يدع منه واوا ولا ألفا يلفته بلسانه كما تلفت البقرة الخلا بلسانها» (٨) يريد : يلوي به لسانه ويلفته.

__________________

(١) ٢١ / الحاقة : ٦٩.

(٢) ٧٨ / يونس : ١٠.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٥٩. والنهز : الضرب.

(٤) المصدر السابق.

(٥) النهاية : ٤ / ٢٥٨.

(٦) يرى ابن الأثير أنه الطائش الخفيف ،

(٧) ١٩ / غافر : ٤٠.

(٨) النهاية : ٤ / ٢٥٩ ، مع تغيير في الرواية.

٣٦

واللّفت والفتل واحد ، ولذلك زعم أنّ أحدهما مقلوب من الآخر كأنه رضي الله عنه نهى عن الاغترار بمن يقرأ القرآن ؛ فربّ قاريء هذه صفته ، وهذا في ذاك الزمان فكيف في زماننا؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. والخلا ـ بالقصر ـ المرعى.

ل ف ح :

قوله تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ)(١) أي تضرب وتصيب. يقال : لفحته النار والسّموم ونفحته ، أي أصابته ، إلا أنّ اللفح أشدّ من النّفح ، ولذلك أتي به هنا دون النفح لأنّ المقام مقام تهويل ، وأتى بالنفح هناك تنبيها على أنّهم إذا أصابهم أدنى شيء من ذلك استغاثوا وجأروا ، ومن ثمّ نكرت النفحة للتقليل ، ومنه استعير : نفحته بالسيف ، أي ضربته.

ل ف ظ :

قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ)(٢) اللفظة لغة الطّرح والإلقاء ؛ يقال : لفظ البحر زبده ، ولفظت الرّحى الدقيق ، أي طرحاهما. وفي اصطلاح أهل اللسان : ما خرج من بين الشفتين حروفا مقطعة ، وهو أعمّ من القول لأنه يطلق على المهمل والموضوع ، والقول لا يطلق إلا على الموضوع ، وهو مصدر لفظ يلفظ ، والقول أعمّ من الكلام لانطلاقه على المفرد والمركب ، وبين الكلام والكلم عموم وخصوص من وجه. وقد بيّنا ذلك في غير هذا.

قال بعضهم : اللفظ بالكلام مستعار من لفظ الشيء من الفم ولفظ الرّحى الدقيق. ويقال للدّيك : لافظة ، لطرحه ما يلتقطه لدجاجه ؛ فهو لافظ. وفائدة قوله تعالى : (مِنْ قَوْلٍ) تنبيهك على أنّ المؤاخذ به إنما هو الموضوعات دون المهملات ، بل أخصّ من ذلك هو الكلام المفيد ، لأن القول يطلق على المفرد والمركب.

__________________

(١) ١٠٤ / المؤمنون : ٢٣.

(٢) ١٨ / ق : ٥٠.

٣٧

ل ف ف :

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً)(١) أي منضمّا بعضكم إلى بعض ، من لففت الشيء إذا ضممته وجمعته متراكبا بعضه على بعض لفّا. وجاؤوا ومن لفّ لفّهم ، أي ومن انضمّ إليهم ، وقيل : معناه أتينا بكم من كلّ قبيلة.

قوله تعالى : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً)(٢) أي ملتفّة ، يصفها بكثرة الأغصان والورق المتضمّن للظلّ ، والظلّ أحبّ شيء للعرب.

والألفّ : الذي يتدانى فخذاه من سمنه. والألفّ ـ أيضا ـ الثقيل البطيء من الناس.

والألفاف : جمع لفّ ـ بالكسر ـ بمعنى ملفوف ، فهو كعدل وأعدال وحمل وأحمال وعدّ وأعداد. وقيل : بل هو جمع لفّ ـ بالضم ـ. ولفّ جمع آلف وألفاف ، نحو حمر. يقال : جنّة لفّاء أي كثيرة الشجر ، فألفاف جمع الجمع.

واللفيف من الناس : المجتمعون من قبائل شتّى ، فكذا اللّفّ. وفي الحديث : «كان عمر ـ والله ـ وعثمان لفّا» (٣) أي حزبا واحدا ، وفي حديث أمّ زرع : «إن أكل لفّ» (٤) أي جمع ، وقيل : خلط من كلّ شيء. / وقد قالت بعض الأعراب تذمّ زوجها : «إنّ ضجعتك لا نجعاف وإنّ شملتك لالتفاف ، وإنّ شرّتك لاستفاف ، وإنك لتشبع ليلة تضاف وتنام ليلة تخاف» (٥). وسمى الخليل الكلمة المعتلّ منها حرفان أصليان لفيفا ، وهذا عند الصرفيين فيه تفصيل إن توالى حرفا العلّة سمّوه لفيفا مقرونا نحو يوم ، وإلا فمفروقا نحو وعى ووقى.

ل ف ي :

قوله تعالى : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها)(٦) أي وجداه ؛ يقال : ألفيت الشيء : وجدته ، وألفيته :

__________________

(١) ١٠٤ / الإسراء : ١٧.

(٢) ١٦ / النبأ : ٧٨.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٦١ ، وفيه إطالة. واللّف : الحزب.

(٤) المصدر السابق.

(٥) جعف : صرع ، والإنجعاف : الصرع والضرب به على الأرض.

(٦) ٢٥ / يوسف : ١٢.

٣٨

لقيته ، ويستعمل بمعنى الظنّ فينصب مفعولين. قوله تعالى : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ)(١) أي وجدوهم ، وضالين : حال ، وقيل : معناها الظنّ فهو مفعول ثان.

فصل اللام والقاف

ل ق ب :

قوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ)(٢). الألقاب : جمع لقب ، وهو في الآية ما لا يشعر بصفة مسمّاه لدلالة السياق عليه ، وإلّا فاللقب في الأصل ما أشعر بصفة المسمّى أو رفعته ؛ فالأول نحو : قفّة وبطّة ، والثاني نحو : الفاروق وعتيق. ولذلك قال بعضهم (٣) : اللقب ضربان : ضرب على سبيل التشريف كألقاب السلاطين ، وضرب على سبيل النّبز ، وإياه قصد بقوله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ). وقد حمّل بعضهم الآية فلا يجيز التلقيب البتّة ، لأنّه إن كان قبيحا ففيه إيذاء ، وإن كان شريفا ففيه إطراء. وكان طائفة من العرب تلقّب «بنو أنف الناقة» فيتأذّون بذلك حتى قال الشاعر (٤) : [من البسيط]

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم

ومن يسوّي بأنف الناقة الذّنبا؟

فصار لذلك أحبّ الأسماء إليهم. ومن ذلك ما يروى عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه كان يقول : «أحبّ الأسماء إلي أبو تراب ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كناني به». وقد أوضحنا هذه القصة في غير هذا التفسير.

قال الراغب : اللقب اسم يسمّى به الإنسان سوى اسمه الأول ، ويراعى فيه المعنى ، بخلاف الأعلام ، ولمراعاة المعنى قال الشاعر (٥) : [من البسيط]

وقلّما أبصرت عيناك ذا لقب

إلا ومعناه إن فتشت في لقبه

__________________

(١) ٦٩ / الصافات : ٣٧.

(٢) الحجرات : ٤٩.

(٣) قاله الراغب في المفردات : ٤٥٢.

(٤) البيت للحطيئة (مختارات ابن الشجري ـ القسم الثالث : ١٨). وفي الأصل : يساوي.

(٥) من شواهد الراغب في المفردات : ٤٥٢.

٣٩

قلت : اللقب ضرب من العلم ، وقسم من أقسامه ، وقد قسم النحاة العلم إلى ثلاثة أقسام : اسم ولقب وكنية. وإذا اجتمع اللقب مع غيره تأخّر عنه ، وهو عكس استعمال الناس اليوم. وقد جاء ذلك في ضرورة كقول الشاعر (١) : [من البسيط]

بأنّ ذا الكلب عمرا خيرهم نسبا

ببطن شريان يعوي حوله الذّيب

ل ق ح :

قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ)(٢). اللواقح من الريح : التي تلقح النخل ، أي تحمل ريح الذّكر إلى الأنثى فتطلع ، وضدّها العقيم ؛ سميتا بذلك على الاستعارة من الحيوان الذي يلقح وينتج وعكسه ، يقال : لقحت الناقة تلقح لقحا ولقاحا ، وكذلك الشجرة. وألقح الفحل الناقة ، والريح السحاب ، وألقح زيد النخلة ولقّحها واستلقحها.

وقيل : معنى لواقح : ذات لقاح. وناقة لاقح (٣) ذات لبن وجمعها لقاح ولقّح. والملاقيح : التي في بطونها أولادها ، وقيل : جمع لقحة على غير قياس ، وقيل : جمع ملقح تقديرا وكذا الملاقيح. وقيل : الملاقيح : ما في بطن الأمهات ، وفي الحديث : «نهى عن بيع الملاقيح والمضامين» (٤). فالملاقيح : ما في بطون الأمهات ، والمضامين : ما في أصلاب الآباء ، واللّقاح : ماء الفحل. وقيل : معنى لواقح : حوامل ؛ قال الأزهريّ : جعلها حوامل لأنها تحمل السحاب الذي تقلّه ثم تمرّ به فتستدرّه. ولواقح : جمع لاقحة أي ذات لقاح ، نحو : همّ ناصب أي ذو نصب ، وقال يعقوب : اللواقح : الحوامل. واللّقاح : ذوات اللبن واحدتها لقوح ولقحة ، وقال غيره : ناقة لقحة ولقحة ، وقد لقحت ـ بالكسر ـ تلقح لقاحا ولقاحا بالفتح والكسر ، وهي التي تنجب حديثا ، والجمع لقح ولقّح. وفي حديث ابن عباس : «اللقاح واحد» (٥). وقال الليث : اللّقاح : اسم ماء الفحل. أراد أنّ ماء الفحل الذي حملت منه واحد. قيل : ويجوز أن يكون بمعنى الإلقاح ، يقال : ألقح الفحل الناقة إلقاحا

__________________

(١) البيت لجنوب أخت عمرو ذي الكلب بن العجلان أحد بني كاهل (شرح ابن عقيل : ١ / ١٠٤).

(٢) ٢٢ / الحجر : ١٥.

(٣) في الأصل : لقاح ، والتصويب من اللسان والنهاية. وفي المفردات : لقحة.

(٤) النهاية : ٤ / ٢٦٣.

(٥) النهاية : ٤ / ٢٦٢.

٤٠